LATEST EPISODES
آخر الحلقات
SUBSCRIBE TO OUR NEWSLETTER
اشترك في نشرتنا الالكترونية
YOU MAY ALSO LIKE
قد يعجبك أيضاً
صوت القاهرة
اختبرت ريم خورشيد القاهرة، مدينة نشأتها، عبر السماعات التي بدأت في استخدامها في الطفولة لمعالجة ضعف السمع، واختبرتها في صمت تام حين كانت تفضل ذلك على الآثار الجانبية المزعجة للسماعة، ثم في سن ال25، وبعد خضوعها لعملية زراعة القوقعة أصبحت تسمعها بشكل أقرب للأذن السليمة.نسمع في حلقة اليوم قراءة ريم لنص كتبته تصف فيه تطور علاقتها مع مدينتها بالتوازي مع المراحل المختلفة من رحلتها السمعية.
تم نشر المقال الذي نسمعه اليوم في منصة بلاتفورم، يمكنكم قراءة المقال كاملاً عبر هذا الرابط: https://www.platformspace.net/translations/experiencing-the-sounds-and-silences-of-cairo
برنامج بحب من إنتاج شبكة كيرنينج كلتشرز.حلقة اليوم من إعداد هبة عفيفي، كتابة وقراءة ريم خورشيد، ترجمة المقال من قبل أمداء م م ح، محررة ومقدمة البرنامج شهد بني عودة. التصميم الصوتي لفادي جرس.
(إعلان)
(تتر بحب)
شهد: لما أي حدا فينا بيسترجع ذكرياتو فمكان نشأتو أو المدينة لي كبر فيها، ممكن تتجسد في ذهنو صورة أو ريحة أو حتى صوت.
ريم خورشيد، ضيفتنا من مصر، مهندسة معمارية كبرت ف مدينة القاهرة الصاخبة، كان عندها ريم ضعف فالسمع من وهي صغيرة، واختبرت القاهرة من خلال صوت السماعة اللي بلشت تلبسها من سن صغير عشان تساعدها على السمع، اختبرت القاهرة في شبه صمت تام لما كانت بتقرر تسكر السماعة، السنة الماضية خضعت ريم لعملية زرع قوقعة، كان عمرها 25 سنة، وصارت تسمع بشكل أقرب من اللي بتسمع أي أذن سليمة لكن ريم لسا بتفضل أحيانا ترجع للنسخة الصامتة للمدينة عن طريق أنها تسكر القوقعة.
في حلقة اليوم، رح نسمع قراءة من ريم خورشيد لمقالة كتبتها السنة الماضية، توصف فيها كيف اختبرت القاهرة بشكل مختلف من خلال مراحل سمعها المختلفة، بيفصل بينهم فترات غياب لأنها ريم عايشة حاليا بالإمارات، وتوصف كمان تجربتها لما شهدت بعض أحداث الثورة المصرية عام 2011 بدون صوت أو بأصوات استقبلتها بشكل مختلف عن باقي الناس.
خلينا نسمع المقال بصوت ريم خورشيد، لي بتحكي فيه عن تجربتها مع القاهرة، في صمتها وصخبها
المقال اللي بنسمعه تم نشره في موقع بلاتفورم
ريم: أقف في قلب واحدةٍ من أكثر مناطق القاهرة جلبةً وازدحاماً؛ أصوات متضاربة تملأ المكان، وصخب ميدان رمسيس يستحوذ على انتباهي ويفقدني صوابي وسط زحمة السير وتدفقها العشوائي. يندفع الناس نحو محطة مصر ومنها بالتزامن مع وصول القطارات ومغادرتها. أحاول أن أشق طريقي بحذر وسط ميدان رمسيس بينما يصارع عقلي دفق الضجيج المحيط به، فهو أكثر حدة وصخباً من قدرتي على الاستيعاب.
على الرصيف خارج محطة القطارات، أجد نفسي محاطةً بالحافلات الصغيرة المكتظة والسيارات التي تنتظر عند موقف حافلات عشوائي. أرى البضائع المختلفة متناثرة فوق قطع من القماش على طول الأرصفة الممتدة أمام محطة القطارات. أنظر إلى أطراف الميدان لأرى فوضى مدينة القاهرة تتعاظم أبعد من ناظري، بينما تندفع جحافل السيارات والشاحنات والحافلات والعربات والدراجات والناس عبر جسر ٦ أكتوبر الممتد فوقي. ووفقاً لنصيحة أخصائي السمعيات ومعالج النطق، أحاول تمييز الأصوات المختلفة من بين ضوضاء المدينة العشوائية؛ فأميز صوت هدير شاحنة مسرعة، صياح باعة جوالين ينادون على بضائعهم، وكذلك صفير القطارات.
القاهرة؛ مهد طفولتي، ومنبع الأصوات المشوشة التي لا تنتهي، والتي كنت – حتى هذه اللحظة – أحسبها صامتة، فقبل أن أخضع لعملية زراعة القوقعة، عرفت هذه المدينة كمشهد صاخب دون أن أسمعها.
بالنسبة لي، لم تكن السيارات والشاحنات الهادرة سوى أشكال متحركة تتهادى وسط زحام الشوارع. ولم تكن شاحنات الهدم التي تدك المباني سوى عمالقة حديدية ترفع أذرعها متوعدةً عبر السماء. ومهما علت أصوات صفارات سيارات الإسعاف، لم تكن بالنسبة لي سوى أضواء وامضة تنطلق مسرعةً عبر ممرات الطرق المختنقة. وكان الباعة الجوالون يبدون لي وهم ينادون على بضائعهم فقط شخوصاً بوجوه حمراء وأوردة وداجية منتفخة.
نشأت صمّاء، أمرر يدي على جدران المدينة العتيقة لأتحسس غالباً خربشات
الأحرف الأولى من أسماء عشاق مجهولين. ألقي بكفي لأتلمّس برودة صخور مبانيها، وألصق وجهي بأبواب منازلها الخشبية المنحوتة لأشعر بوخز ذبذبات الصوت تداعب وجنتَيّ. أتمشى تحت فيء الأشجار المعمرة في شوارع القاهرة، وأمرر أصابعي عبر أغصانها المورقة (الصورة ١).
الطفولة / المنزل
كنت في السادسة من عمري حين اكْتَسَبت آليات خاصة للتأقلم مع الصمم؛ أذكر بوضوح صيف عام ٢٠٠١ – وهو أول صيف أقضي خلاله فترات الظهيرة في حجرات مقياس السمع عند أخصائييّ السمع بدلاً من الأكواخ الشاطئية على ضفاف البحر المتوسط حيث كنت أمضي عطلاتي سابقاً.
كانت “المدرسة” بالنسبة لي تقتصر على متابعة حركة شفاه معلمة اللغة الإنجليزية في الصف الخامس، والشعور بأنفاسها تلفح وجهي بينما كانت تتحدث إلى الصف. وكنت أحاول جاهدةً البحث عن إشارات بين شفاه المعلمين وتفسير المقاطع الصوتية وقراءة الأصوات التي تنساب من بين أسنانهم. كانت معلمة اللغة الإنجليزية تحب التحدث إلى نفسها، كثيرا ما حدقت إلى شفاهها فيما كانت تتمتم أحاديث عن حياتها الشخصية؛ وقد كانت تناجي نفسها كل يوم. في الصف الخامس، تعلمت قراءة الشفاه واستراق السمع، وأصبحت تلك لعبتي المفضلة.
القاهرة؛ مهد طفولتي، ومنبع الأصوات المشوشة التي لا تنتهي، والتي كنت – حتى هذه اللحظة – أحسبها صامتة
كانت طفولتي استكشافاً صامتاً للألوان والأحاسيس، حيث أفسح السمع المجال أمام حاستي البصر واللمس. أتذكر اجتياز الرواق الطويل في منزلنا وأنا أمرر يدي اليسرى على السطح الخشن للحائط قبل أن أنعطف يسرةً نحو مطبخنا الصغير المعتم. محاطةً بصمتٍ مطبقٍ لم أكن أخشاه أبداً، كنت أقف على أطراف أصابعي وأمد يدي لأبلغ مذياع أمي الأحمر على طاولة الجرانيت الباردة. كان الصمت يتلاشى عندما أتحسس غطاء مكبر الصوت لأشعر بخفقانه يمرر موجة مفعمة بالحواس عبر أطراف أصابعي، فيعود الصمت مجدداً عندما أبعد يدي. اعتدت أن أعبث بهوائي المذياع لأصنع ذبذبات صوتية، وكلما تعالت خشخشة المذياع ازداد معها اهتزاز غطاء مكبر الصوت.
تتناهى إلى ذاكرتي تلك الليالي الطوال وأنا أغفو في حضن جدتي وأصابعي تتلمس حنجرتها لأشعر بحبالها الصوتية تهتز مع غنائها، وأرى شفاهها تتحرك وحضنها يتمايل مع تهويدات لم أسمعها قط. أصيبت جدتي “عزيزة” بسكتة دماغية أفقدتها القدرة على الكلام قبل أن أحصل على أول سماعة طبية. هكذا كانت طفولتي، تعرفت على الأصوات في مكان ما بين موجات الصوت المرتعشة ونثرات الزمن العابرة.
الثورة / الميدان
إطلاق رصاص! يهلع المتظاهرون بحثاً عن ملجأ يحميهم من الطلقات، بينما أنا أبحث بلهفةٍ عن شفاهٍ أقرأها وسط الجماهير المضطربة. إنه يوم ٢٠ نوفمبر ٢.١١، والجميع يغطّون وجوههم لحماية رئاتهم من الغاز المسيل للدموع. لا تلتقط سماعات الأذن الخاصة بي سوى سلسلةً من الانفجارات والأصوات المدوّية، كاتمةً ومشوّهةً أناشيد الحريّة الصادحة، وتاركةً إياي وسط فوضى الصمت والدخان. تئنّ مساعدات السمع في أذنيّ بأصوات الصافرات ممزوجة بصدى الطلقات الناريّة. بالرغم من محاولاتي، أعجز عن تحديد أكانت الأصوات لذخيرةً حيّة أم لقنابل الغاز المسيل للدموع.
هربًا من الاشتباكات المتواصلة في المسارات الواسعة لشارع محمد محمود المزين بالرسوم الجدارية والمؤدي إلى مبنى وزارة الداخلية، تفرّق المتظاهرون بين الأزقّة الضيقة في وسط البلد للاحتماء من طلقات القناصين أخذت الممرات الأشبه بالمتاهات تغصّ بالناس؛ مئات الشفاه تغرّد بمآسٍ مشتركة في آن معاً، ثم يضرب الصدى المدوّي الجدران الاسمنتيّة لترتدّ الأصوات متناثرةً في الهواء. (الصورة 3)
أثناء إلقاء قنابل الغاز المسيل للدموع مرةً أخرى، دوى في أذنيّ طنيناً قوياً، وقررت الانسحاب إلى وسط ميدان التحرير لألتقط أنفاسي. كنت ألمح كل بضع دقائق دراجةً ناريّة تمرّ حاملةً رجال ونساء مصابين وتأخذهم إلى المستشفى الميداني بعيداً عن الأشتباكات (الصورة 4). في تلك الأوقات، كنت أطفئ سماعات الاذن بحثا عن السكون والصمت. تمكنّت وسط الصمت من عزل نفسي عن مشهد الفوضى ونسيان الخطر لبضع لحظاتٍ سريعة، وكأنني مشاهدٌ خفيّ أراقب أحداث الثورة. الشفاه مفتوحة – فأنا إذن على المسرح؛ الشفاه مغلقة، فأنا بين الجماهير.
العودة / المدينة
في ميدان التحرير، أسير عبر الشوارع التي شهدت يقظة انتفاضاتٍ عديدة. إنه عام ٢٠٢٠ الآن، أي عام الذكرى التاسعة لثورة ٢٠١١، وقد عدت لتوّي بعد غيابٍ دام ثلاث سنوات. يبدو الميدان غريباً، والمدينة صامتة وضعيفة؛ ومع ذلك، أشعر وكأنّ الثورة لم تنتهِ حقاً.
إنه ا ظهيرة يوم ثلاثاء حار في شهر أبريل، وضجيج المدينة المتضارب يبدو مألوفاً. تداعب الرياح الأوراقَ بلطف لتمرّ منها عبر رؤوس الأشجار المورقة في القاهرة. تحت شجرة الأكاسيا، أخذت أستمع لصوت الطيور المغرّدة قبل أن يقاطعها هدير هواء المكيّفات، وصوتُ رافعةٍ صاخبة تحمّل أطناناً من الإسمنت في موقع للبناء، وشاحنتان للهدم تضربان مبنىً قديم بدون كلل في مكان قريب.
كان ذلك بعد بضعة أسابيع فقط على إجرائي عملية زراعة القوقعة.
قلّما أتحدث حقاً عن أحداث عام ٢٠١١، فكيف أشرح حالة الصمت بعد لحظات الفوضى الثوريّة في المدينة، أو حالة الهدوء في صميم الانتفاضة؟ لقد عرفتُ القاهرة الصاخبة مدينةً غير مسموعة، ورأيت الثورة كتلاً ضبابية من الاضطرابات؛ علّمني الضجيج الذي لا يكلّ وخوفي من الوقوع وسط صخب المشاحنات أن أجد الراحة في ما لا يمكنني سماعه، أن أنزوي نحو الصمت وأبقى خفيّةً
. مظاهرة في ميدان التحرير في نوفمبر ٢٠١١. ويظهر في الخلفية مبنى مجمّع التحرير الذي كان مركزاً للمصالح الحكومية منذ فترة الأربعينيات حتى عام ٢٠١٥ حين أعلنت الحكومة عن خططها لإخلائه ضمن إطار عملية تجديد ميدان التحرير. تصوير راندا خورشيد. نشر الصورة بموافقة المصورة.
لا يسعني إلّا العودة باستمرار إلى ميدان التحرير أواصل الرجوع إلى الميدان رغم الجهود الساعية إلى تغيير رمزيّته: تجديد الصرح القائم وسط الميدان، هدم جدران شارع محمد محمود واختفاء رسوماته الجدارية، إعادة طلاء واجهات المباني، وتثبيت الحواجز الاسمنتية التي تسد شوارعاً كثيرة. أتحسر لهدم مبنى مقرّ الحزب الوطني الديمقراطي الذي كان يقع قريبا من الميدان، والذي أُضرمت فيه النيران خلال الأيام الثمانية عشر للثورة وقد انعكست ألسنة نيران الملتهبة حينذاك على مياه النيل لتشهد بذلك على سقوط النظام.
كيف أشرح حالة الصمت بعد لحظات الفوضى الثوريّة في المدينة، أو حالة الهدوء في .صميم الانتفاضة؟
تغيرت تجربتي مع هذه المدينة لتتداخل ذاكرتي الصوتية مع البصرية، فقد كنت فقط “أسمع” ما كان مرئياً ومحسوساً. وترافقت ضوضاء القاهرة مع أجهزة السمع الأولى التي استخدمتها، فقد كانت أصوات الطنين والقعقعة والصرير والضجيج تردد صدى نداءات المدينة تطلب المساعدة ضد محاولات هدم تراثها الحديث و هويتها العمرانية.
حين أقوم بتشغيل معالج صوت القوقعة، أشعر أنني بالكاد أعرف هذا المكان. أخفق في محاولات استحضار الأصوات القديمة لمدينتي، إذ يتلقاها عقلي الآن بطريقة مختلفة. كما أنّ الاهتزازات والترددات والنغمات ونطاق الأصوات باتت جميعها الآن صفات دخيلة استولت على أصوات الماضي.
أراقب الناس من حولي وهم يدخلون ويغادرون نطاق المشهد الصوتي للمدينة؛ وينعكس ذلك أيضاً في خطواتي عبر الشوارع، وفي اختبار الأصوات الجديدة للأماكن المألوفة.
وأدرك في هذه اللحظة بالذات أنني أكتشف مدينتي من جديد. ينتابني شعور الضياع عند سماعها بشكل مختلف للمرة الأولى، فالقاهرة التي قضيت فيها سنوات طفولتي باتت مكان اللّاعودة
الأصوات تزخر بالمعاني، إن كان على المستوى الشخصي أو النطاق الحضري ؛ فلا أعلم كيف يمكنني أن أشرح القاهرة التي أعرفها لهذا العالم الذي يسمع – خصوصا الآن، بعد أن أصبحت قادرةً على سماع بعض اصوات الطبيعة والكائنات والبشر. القاهرة صاخبة بلا شك، ولكن صخبها يعبّر عن ماضيها الحضري الغني – عصر الحكم المملوكي والعثماني وحتى الحديث – قبل أن تلوح في الأفق أحلام الليبرالية الجديدة بسكونها وضوضائها.
ومع كل تلك الأصوات التي تبدو غريبةً عني الآن، أتساءل ما إذا كانت ذاكرتي عن الوطن مرئيةً دائماً. فأنا فتاة صمّاء تعود إلى مدينتها بأذنين صناعيتين لتبحث عن الصمت في ازدحام الأفق. هذه أنا الآن، أجوب الشوارع التي نشأت فيها بحثاً عن بعض لحظات الصمت التي أضعتها. أنحني لأتلمّس الرصيف الذي أعتدت المشي عليه بخطوات متثاقلة، وأتحسس الجدران غير المستوية. بينما الاحظ تحول العديد من المباني التي نشأت حولها إلى أطلال، أسأل نفسي: إذا لم يكن المرء قادراً على حفظ مدينته، فكيف له أن يحافظ على ذكرياته؟
شهد: شكر كثير كبير لريم خورشيد لمشاركتنا قصتها وتسجيل المقالة بصوتها، شكرا كمان لمنصة بلاتفورم لمنحنا الإذن لاستخدام مقالة ريم
المقالة بعنوان: القاهرة، بسكونها وضوضائها
ريم كتبت المقالة باللغة الإنجليزية، وتم ترجمة المقال من قبل أمداء. تم اقتضاب بعض الفقرات من النسخة المكتوبة للمقال، شكرا للاستماع وبلاقيكم الأسبوع الجاي بحلقة جديدة من برنامج بحب!
(تمت – إعلان)
(إعلان)
(تتر بحب)
شهد: لما أي حدا فينا بيسترجع ذكرياتو فمكان نشأتو أو المدينة لي كبر فيها، ممكن تتجسد في ذهنو صورة أو ريحة أو حتى صوت.
ريم خورشيد، ضيفتنا من مصر، مهندسة معمارية كبرت ف مدينة القاهرة الصاخبة، كان عندها ريم ضعف فالسمع من وهي صغيرة، واختبرت القاهرة من خلال صوت السماعة اللي بلشت تلبسها من سن صغير عشان تساعدها على السمع، اختبرت القاهرة في شبه صمت تام لما كانت بتقرر تسكر السماعة، السنة الماضية خضعت ريم لعملية زرع قوقعة، كان عمرها 25 سنة، وصارت تسمع بشكل أقرب من اللي بتسمع أي أذن سليمة لكن ريم لسا بتفضل أحيانا ترجع للنسخة الصامتة للمدينة عن طريق أنها تسكر القوقعة.
في حلقة اليوم، رح نسمع قراءة من ريم خورشيد لمقالة كتبتها السنة الماضية، توصف فيها كيف اختبرت القاهرة بشكل مختلف من خلال مراحل سمعها المختلفة، بيفصل بينهم فترات غياب لأنها ريم عايشة حاليا بالإمارات، وتوصف كمان تجربتها لما شهدت بعض أحداث الثورة المصرية عام 2011 بدون صوت أو بأصوات استقبلتها بشكل مختلف عن باقي الناس.
خلينا نسمع المقال بصوت ريم خورشيد، لي بتحكي فيه عن تجربتها مع القاهرة، في صمتها وصخبها
المقال اللي بنسمعه تم نشره في موقع بلاتفورم
ريم: أقف في قلب واحدةٍ من أكثر مناطق القاهرة جلبةً وازدحاماً؛ أصوات متضاربة تملأ المكان، وصخب ميدان رمسيس يستحوذ على انتباهي ويفقدني صوابي وسط زحمة السير وتدفقها العشوائي. يندفع الناس نحو محطة مصر ومنها بالتزامن مع وصول القطارات ومغادرتها. أحاول أن أشق طريقي بحذر وسط ميدان رمسيس بينما يصارع عقلي دفق الضجيج المحيط به، فهو أكثر حدة وصخباً من قدرتي على الاستيعاب.
على الرصيف خارج محطة القطارات، أجد نفسي محاطةً بالحافلات الصغيرة المكتظة والسيارات التي تنتظر عند موقف حافلات عشوائي. أرى البضائع المختلفة متناثرة فوق قطع من القماش على طول الأرصفة الممتدة أمام محطة القطارات. أنظر إلى أطراف الميدان لأرى فوضى مدينة القاهرة تتعاظم أبعد من ناظري، بينما تندفع جحافل السيارات والشاحنات والحافلات والعربات والدراجات والناس عبر جسر ٦ أكتوبر الممتد فوقي. ووفقاً لنصيحة أخصائي السمعيات ومعالج النطق، أحاول تمييز الأصوات المختلفة من بين ضوضاء المدينة العشوائية؛ فأميز صوت هدير شاحنة مسرعة، صياح باعة جوالين ينادون على بضائعهم، وكذلك صفير القطارات.
القاهرة؛ مهد طفولتي، ومنبع الأصوات المشوشة التي لا تنتهي، والتي كنت – حتى هذه اللحظة – أحسبها صامتة، فقبل أن أخضع لعملية زراعة القوقعة، عرفت هذه المدينة كمشهد صاخب دون أن أسمعها.
بالنسبة لي، لم تكن السيارات والشاحنات الهادرة سوى أشكال متحركة تتهادى وسط زحام الشوارع. ولم تكن شاحنات الهدم التي تدك المباني سوى عمالقة حديدية ترفع أذرعها متوعدةً عبر السماء. ومهما علت أصوات صفارات سيارات الإسعاف، لم تكن بالنسبة لي سوى أضواء وامضة تنطلق مسرعةً عبر ممرات الطرق المختنقة. وكان الباعة الجوالون يبدون لي وهم ينادون على بضائعهم فقط شخوصاً بوجوه حمراء وأوردة وداجية منتفخة.
نشأت صمّاء، أمرر يدي على جدران المدينة العتيقة لأتحسس غالباً خربشات
الأحرف الأولى من أسماء عشاق مجهولين. ألقي بكفي لأتلمّس برودة صخور مبانيها، وألصق وجهي بأبواب منازلها الخشبية المنحوتة لأشعر بوخز ذبذبات الصوت تداعب وجنتَيّ. أتمشى تحت فيء الأشجار المعمرة في شوارع القاهرة، وأمرر أصابعي عبر أغصانها المورقة (الصورة ١).
الطفولة / المنزل
كنت في السادسة من عمري حين اكْتَسَبت آليات خاصة للتأقلم مع الصمم؛ أذكر بوضوح صيف عام ٢٠٠١ – وهو أول صيف أقضي خلاله فترات الظهيرة في حجرات مقياس السمع عند أخصائييّ السمع بدلاً من الأكواخ الشاطئية على ضفاف البحر المتوسط حيث كنت أمضي عطلاتي سابقاً.
كانت “المدرسة” بالنسبة لي تقتصر على متابعة حركة شفاه معلمة اللغة الإنجليزية في الصف الخامس، والشعور بأنفاسها تلفح وجهي بينما كانت تتحدث إلى الصف. وكنت أحاول جاهدةً البحث عن إشارات بين شفاه المعلمين وتفسير المقاطع الصوتية وقراءة الأصوات التي تنساب من بين أسنانهم. كانت معلمة اللغة الإنجليزية تحب التحدث إلى نفسها، كثيرا ما حدقت إلى شفاهها فيما كانت تتمتم أحاديث عن حياتها الشخصية؛ وقد كانت تناجي نفسها كل يوم. في الصف الخامس، تعلمت قراءة الشفاه واستراق السمع، وأصبحت تلك لعبتي المفضلة.
القاهرة؛ مهد طفولتي، ومنبع الأصوات المشوشة التي لا تنتهي، والتي كنت – حتى هذه اللحظة – أحسبها صامتة
كانت طفولتي استكشافاً صامتاً للألوان والأحاسيس، حيث أفسح السمع المجال أمام حاستي البصر واللمس. أتذكر اجتياز الرواق الطويل في منزلنا وأنا أمرر يدي اليسرى على السطح الخشن للحائط قبل أن أنعطف يسرةً نحو مطبخنا الصغير المعتم. محاطةً بصمتٍ مطبقٍ لم أكن أخشاه أبداً، كنت أقف على أطراف أصابعي وأمد يدي لأبلغ مذياع أمي الأحمر على طاولة الجرانيت الباردة. كان الصمت يتلاشى عندما أتحسس غطاء مكبر الصوت لأشعر بخفقانه يمرر موجة مفعمة بالحواس عبر أطراف أصابعي، فيعود الصمت مجدداً عندما أبعد يدي. اعتدت أن أعبث بهوائي المذياع لأصنع ذبذبات صوتية، وكلما تعالت خشخشة المذياع ازداد معها اهتزاز غطاء مكبر الصوت.
تتناهى إلى ذاكرتي تلك الليالي الطوال وأنا أغفو في حضن جدتي وأصابعي تتلمس حنجرتها لأشعر بحبالها الصوتية تهتز مع غنائها، وأرى شفاهها تتحرك وحضنها يتمايل مع تهويدات لم أسمعها قط. أصيبت جدتي “عزيزة” بسكتة دماغية أفقدتها القدرة على الكلام قبل أن أحصل على أول سماعة طبية. هكذا كانت طفولتي، تعرفت على الأصوات في مكان ما بين موجات الصوت المرتعشة ونثرات الزمن العابرة.
الثورة / الميدان
إطلاق رصاص! يهلع المتظاهرون بحثاً عن ملجأ يحميهم من الطلقات، بينما أنا أبحث بلهفةٍ عن شفاهٍ أقرأها وسط الجماهير المضطربة. إنه يوم ٢٠ نوفمبر ٢.١١، والجميع يغطّون وجوههم لحماية رئاتهم من الغاز المسيل للدموع. لا تلتقط سماعات الأذن الخاصة بي سوى سلسلةً من الانفجارات والأصوات المدوّية، كاتمةً ومشوّهةً أناشيد الحريّة الصادحة، وتاركةً إياي وسط فوضى الصمت والدخان. تئنّ مساعدات السمع في أذنيّ بأصوات الصافرات ممزوجة بصدى الطلقات الناريّة. بالرغم من محاولاتي، أعجز عن تحديد أكانت الأصوات لذخيرةً حيّة أم لقنابل الغاز المسيل للدموع.
هربًا من الاشتباكات المتواصلة في المسارات الواسعة لشارع محمد محمود المزين بالرسوم الجدارية والمؤدي إلى مبنى وزارة الداخلية، تفرّق المتظاهرون بين الأزقّة الضيقة في وسط البلد للاحتماء من طلقات القناصين أخذت الممرات الأشبه بالمتاهات تغصّ بالناس؛ مئات الشفاه تغرّد بمآسٍ مشتركة في آن معاً، ثم يضرب الصدى المدوّي الجدران الاسمنتيّة لترتدّ الأصوات متناثرةً في الهواء. (الصورة 3)
أثناء إلقاء قنابل الغاز المسيل للدموع مرةً أخرى، دوى في أذنيّ طنيناً قوياً، وقررت الانسحاب إلى وسط ميدان التحرير لألتقط أنفاسي. كنت ألمح كل بضع دقائق دراجةً ناريّة تمرّ حاملةً رجال ونساء مصابين وتأخذهم إلى المستشفى الميداني بعيداً عن الأشتباكات (الصورة 4). في تلك الأوقات، كنت أطفئ سماعات الاذن بحثا عن السكون والصمت. تمكنّت وسط الصمت من عزل نفسي عن مشهد الفوضى ونسيان الخطر لبضع لحظاتٍ سريعة، وكأنني مشاهدٌ خفيّ أراقب أحداث الثورة. الشفاه مفتوحة – فأنا إذن على المسرح؛ الشفاه مغلقة، فأنا بين الجماهير.
العودة / المدينة
في ميدان التحرير، أسير عبر الشوارع التي شهدت يقظة انتفاضاتٍ عديدة. إنه عام ٢٠٢٠ الآن، أي عام الذكرى التاسعة لثورة ٢٠١١، وقد عدت لتوّي بعد غيابٍ دام ثلاث سنوات. يبدو الميدان غريباً، والمدينة صامتة وضعيفة؛ ومع ذلك، أشعر وكأنّ الثورة لم تنتهِ حقاً.
إنه ا ظهيرة يوم ثلاثاء حار في شهر أبريل، وضجيج المدينة المتضارب يبدو مألوفاً. تداعب الرياح الأوراقَ بلطف لتمرّ منها عبر رؤوس الأشجار المورقة في القاهرة. تحت شجرة الأكاسيا، أخذت أستمع لصوت الطيور المغرّدة قبل أن يقاطعها هدير هواء المكيّفات، وصوتُ رافعةٍ صاخبة تحمّل أطناناً من الإسمنت في موقع للبناء، وشاحنتان للهدم تضربان مبنىً قديم بدون كلل في مكان قريب.
كان ذلك بعد بضعة أسابيع فقط على إجرائي عملية زراعة القوقعة.
قلّما أتحدث حقاً عن أحداث عام ٢٠١١، فكيف أشرح حالة الصمت بعد لحظات الفوضى الثوريّة في المدينة، أو حالة الهدوء في صميم الانتفاضة؟ لقد عرفتُ القاهرة الصاخبة مدينةً غير مسموعة، ورأيت الثورة كتلاً ضبابية من الاضطرابات؛ علّمني الضجيج الذي لا يكلّ وخوفي من الوقوع وسط صخب المشاحنات أن أجد الراحة في ما لا يمكنني سماعه، أن أنزوي نحو الصمت وأبقى خفيّةً
. مظاهرة في ميدان التحرير في نوفمبر ٢٠١١. ويظهر في الخلفية مبنى مجمّع التحرير الذي كان مركزاً للمصالح الحكومية منذ فترة الأربعينيات حتى عام ٢٠١٥ حين أعلنت الحكومة عن خططها لإخلائه ضمن إطار عملية تجديد ميدان التحرير. تصوير راندا خورشيد. نشر الصورة بموافقة المصورة.
لا يسعني إلّا العودة باستمرار إلى ميدان التحرير أواصل الرجوع إلى الميدان رغم الجهود الساعية إلى تغيير رمزيّته: تجديد الصرح القائم وسط الميدان، هدم جدران شارع محمد محمود واختفاء رسوماته الجدارية، إعادة طلاء واجهات المباني، وتثبيت الحواجز الاسمنتية التي تسد شوارعاً كثيرة. أتحسر لهدم مبنى مقرّ الحزب الوطني الديمقراطي الذي كان يقع قريبا من الميدان، والذي أُضرمت فيه النيران خلال الأيام الثمانية عشر للثورة وقد انعكست ألسنة نيران الملتهبة حينذاك على مياه النيل لتشهد بذلك على سقوط النظام.
كيف أشرح حالة الصمت بعد لحظات الفوضى الثوريّة في المدينة، أو حالة الهدوء في .صميم الانتفاضة؟
تغيرت تجربتي مع هذه المدينة لتتداخل ذاكرتي الصوتية مع البصرية، فقد كنت فقط “أسمع” ما كان مرئياً ومحسوساً. وترافقت ضوضاء القاهرة مع أجهزة السمع الأولى التي استخدمتها، فقد كانت أصوات الطنين والقعقعة والصرير والضجيج تردد صدى نداءات المدينة تطلب المساعدة ضد محاولات هدم تراثها الحديث و هويتها العمرانية.
حين أقوم بتشغيل معالج صوت القوقعة، أشعر أنني بالكاد أعرف هذا المكان. أخفق في محاولات استحضار الأصوات القديمة لمدينتي، إذ يتلقاها عقلي الآن بطريقة مختلفة. كما أنّ الاهتزازات والترددات والنغمات ونطاق الأصوات باتت جميعها الآن صفات دخيلة استولت على أصوات الماضي.
أراقب الناس من حولي وهم يدخلون ويغادرون نطاق المشهد الصوتي للمدينة؛ وينعكس ذلك أيضاً في خطواتي عبر الشوارع، وفي اختبار الأصوات الجديدة للأماكن المألوفة.
وأدرك في هذه اللحظة بالذات أنني أكتشف مدينتي من جديد. ينتابني شعور الضياع عند سماعها بشكل مختلف للمرة الأولى، فالقاهرة التي قضيت فيها سنوات طفولتي باتت مكان اللّاعودة
الأصوات تزخر بالمعاني، إن كان على المستوى الشخصي أو النطاق الحضري ؛ فلا أعلم كيف يمكنني أن أشرح القاهرة التي أعرفها لهذا العالم الذي يسمع – خصوصا الآن، بعد أن أصبحت قادرةً على سماع بعض اصوات الطبيعة والكائنات والبشر. القاهرة صاخبة بلا شك، ولكن صخبها يعبّر عن ماضيها الحضري الغني – عصر الحكم المملوكي والعثماني وحتى الحديث – قبل أن تلوح في الأفق أحلام الليبرالية الجديدة بسكونها وضوضائها.
ومع كل تلك الأصوات التي تبدو غريبةً عني الآن، أتساءل ما إذا كانت ذاكرتي عن الوطن مرئيةً دائماً. فأنا فتاة صمّاء تعود إلى مدينتها بأذنين صناعيتين لتبحث عن الصمت في ازدحام الأفق. هذه أنا الآن، أجوب الشوارع التي نشأت فيها بحثاً عن بعض لحظات الصمت التي أضعتها. أنحني لأتلمّس الرصيف الذي أعتدت المشي عليه بخطوات متثاقلة، وأتحسس الجدران غير المستوية. بينما الاحظ تحول العديد من المباني التي نشأت حولها إلى أطلال، أسأل نفسي: إذا لم يكن المرء قادراً على حفظ مدينته، فكيف له أن يحافظ على ذكرياته؟
شهد: شكر كثير كبير لريم خورشيد لمشاركتنا قصتها وتسجيل المقالة بصوتها، شكرا كمان لمنصة بلاتفورم لمنحنا الإذن لاستخدام مقالة ريم
المقالة بعنوان: القاهرة، بسكونها وضوضائها
ريم كتبت المقالة باللغة الإنجليزية، وتم ترجمة المقال من قبل أمداء. تم اقتضاب بعض الفقرات من النسخة المكتوبة للمقال، شكرا للاستماع وبلاقيكم الأسبوع الجاي بحلقة جديدة من برنامج بحب!
(تمت – إعلان)